كتاب آخر الخوارج بقلم رياض نجيب الريس.."آخر الخوارج" هو رياض نجيب الريس كما لقب نفسه، الصحافي الذي كان له شرف ومتعة احتراف العمل في الصحافة اللبنانية ما يزيد على أربعين سنة، منذ أن حلم أن الصحافة هي مهنته وطريقه وقدره، لكنه وقبل ذلك كله، كان من نتاج ذلك الجيل العربي الذي جاء لبنان وهو في أوجه وعنفوانه، فدخل مدارسه وتخرج من جامعاته وانضم إلى أحزابه، وتعلم السياسة في مقاهيه، وتنشق حريته وتسكع في مكتباته. على أن الأهم من ذلك كله أنه قرأ صحافته وعرف من خلالها أن للرأي أكثر من وجه وأن للفكر حرية هي في اتساع العقل الإنساني وحريته، فرياض نجيب الريس وعندما جاء لبنان لم يكن هارباً من اضطهاد، ولم يكن لاجئاً سياسياً.
بل كان يبحث عن صحافة يعمل فيها، بعد أن تم تأميم الصحافة السورية في عهد الوحدة المصرية - السورية، وتوقفت "القبس" عن الصدور في العام 1958 بعد 28 سنة من الصدور. كان صاحب مهنة لم يكن مسموحاً بممارستها إلا في لبنان، وتمضي الأيام والأعوام ويمضي في مشواره الطويل في دروب تلك المهنة في لبنان. ويصبح لديه مخزون في الذاكرة يحوي تفاصيل ودقائق ذاك المشوار، يتألق حاثاً صاحبه على استرجاعه في فترة متقدمة من فترات عمره.
ولكن لماذا تصبح الذاكرة مع مرور الوقت أكثر توهجاً وتأججاً؟ لماذا يتذكر المرء في شيخوخته أحداثاً حصلت في طفولته ومراهقته وصباه، لم يكن يذكرها من قبل، وربما لا يريد أن يتذكرها، وليس هناك من سبب لكي تلمع الآن في ذاكرته؟ لماذا تطرق بعض الصور، وبإلحاح، مخيلته وكأنها شريط سينمائي يستعيده بصفاء ذهني؟ أسئلة، أسئلة، أسئلة..
يبدو أن الذاكرة لدى رياض نجيب الريس لم تبهت ألوانها بعد، خصوصاً أن المشاهد لديه كلها متباعدة ومتفرقة، لا يجمع بينها إلا خيط رفيع هو بمثابة تحريض له على سيرته التي يسردها في هذا الكتاب. إلا أنه لا يعتمد كتابه هذا (السيرة أو الذكريات) على تدوين مفكرة أو ملاحظات مكتوبة عبر السنوات أو أوراق عائلية أو رسمية. لقد اعتمد على الذاكرة وحدها، وعلى قصاصات من ورق لأحاديث صحافية هنا وهناك، ومقالات في جرائد اصفرّ ورقها، وصور اندثرت بين صناديق شحنت من بلد إلى آخر عبر الهجرات المتعاقبة، حتى وصل قليلها إلى آخر المرافئ التي رست عليها مراكب صاحبها، وضاع كثيرها في زحمة الإهمال. وما هذه الأشياء إلا جزء من ذاكرة صحافية، هي في الواقع سيرة كل شيء! ليس في هذا الكتاب أي شيء شخصي خارج سياق حياة صاحب السيرة رياض نجيب الريس، في الصحافة، إذ ليس فيه فضائح أدبية ولا مغامرات نسائية ولا بطولات وهمية ولا مؤامرات سياسية ولا تصفية حسابات شخصية، إذ كل ما فيه مرتبط ارتباطاً عضوياً تاريخياً بعلاقة رياض نجيب الريس بمهنة الصحافة، كما عرفها ومارسها وعانى منها وعانت منه.. هذا كتاب مهني عن مهنته. وأما عن وسمه كتابه هذا بآخر الخوارج، فبالنسبة له الخوارج هم يمثلون المعنى الحقيقي لكلمة outsider لأنهم خرجوا عن إجماع الأمة في التحكيم، لكنهم انتموا إلى فكرة سياسية معينة لها ظروفها التاريخية، سرعان ما تحولت إلى مذهب، لذلك فـ "الخارجي" في هذا الكتاب هو نفسه "المنتمي" إلى كل القضايا التي خاضها والتي يتطرق إليها هذا الكتاب، فالخوارج هم نفسهم المنتمون. وهذا ما يعززه التاريخ.