كتاب الدرويش المنبوذ

كتاب الدرويش المنبوذ

تأليف : د. أسماء غريب

النوعية : نصوص وخواطر

كتاب الدرويش المنبوذ  بقلم د. أسماء غريب.....وطريق الإيمان لن تكفيه حياة واحدة، وإذا كنتَ تشهد بأنّ الله حقّ، فاعلم أنّ ذلك خلاصة حيوات وتجارب عديدة مررت بها، إنّكَ جلجامش الّذي جاب الكون كلّه من أجل أن يرى قلبه كلّ شيء، فصعد إلى الأعالي، ونزل إلى الأسافل أيضاً. لذا لا تتسرّع في الجواب إذا ما أحدهم سألك يوماً: هل تؤمنُ  باللّه؟. واعلم أنّ خالقكَ زوّدكَ بكلّ ما تحتاجه لتشقّ طريقكَ نحوه بكلّ ما فيكَ من روح مؤلَّهة، فإمّا أن يظهر فيكَ الحبيب وتستحقَّ شرف الرّسالة، وإمّا طريقاً جديدة تمشيها إلى أن تصل، ولا بدّ ستصل، فلا أحد مستثنىً من بلوغ القمّة، واعلم أنّ مَنْ لمْ يُدركِ القمّة، لا يستطيعُ أن يخبرَكَ بما يوجدُ فيها. ومن أدركَها، لا الأرضُ تبقى مسكنه، ولا المادّة تظلُّ لباسه. لا علاقة للإيمان بالتديّن، إنّه حالة عشقيّة خالصة. أنتَ مؤمن، إذا فأنت عاشق، والعشق موت، لذا يهابه الإنسان، وكيف لا وهو يفنيه، ويقضي فيه على أناه الكليّة! وليس كلّ فرد بقادر على خوض درب الإيمان فالمرتدّون كثر، بل هُمُ الغالبية العظمى. وهذا يسمّى بنكوص النيّة ونقض العهد. حينما ترى، أو تبلغ القمّة، لا بدّ أن تفكّر أنّ طريق النّزول أسهل من طريق الصّعود، والقمّة هي شفا الحفرة الّتي ما فتأ يتحدّث عنها الخالق في معظم كتبه السّماوية ما علمنا منها وما لم نعلم بعد. وأخطر النّكوص ليس ذاك الّذي يعقب حسرة أو خيبة مُنِي بها السّالك في طريق الإيمان الجديد، وإنّما ذاك الّذي يلي قوّة وهيبة ورفعة نالها العارف بعد أن كُشفت له الأسرار وشرب المعرفة اللّدنيّة من بئرها الأصيلة. هذا هو التّفرعن بعينه والتمرّد بذاته، وليس كلّ فرعون أو نمرود جاهل باللّه، وإنّما ناكص على عقبيه بعد أن نال الشّرف والسّلطان فاستغنى عن خالقه. الإيمان خطير، يضع صاحبه في الاختبارات القصوى، ولا يفوز إلّا عاشق مخلص؛ عاشق آثَر أن يبقى في أعماق البئر، بدل الخروج منها، فالخروج ظهور، وكلّ ظهور أناً وغرور، والعاشق الحقّ لا يغادر بئره، إنّما فيها يمسكُ بيمناه شمسَه الباطنيّة ويرفعها إلى الأعلى ليستنير بها الجميع، دون أن يعرف أحدٌ من أين يأتي ذاك النّور والوهج، ولا من أين تهبط عليهم تلك الهبات والعطايا النورانيّة النقيّة، فالرّياء يُفسدُ كلّ شيءٍ. في الأعماق السّحيقة لا يوجد الغبار ولا الظّلمات، ولا العناكب ولا الحيّات، إنما الهدوء والنعيم والسكينة، وملكوت ليس لبهائه ونوره نظير. الأمر يشبه أعماق البحر الدّفينة، فقط حينما تصل إلى ذلك البُعد البرزخيّ العجيب، تختفي الأمواج المتكسّرة والعواصف الهادرة وتصل إلى منطقة الأمان المطلق، هناك حيث ينتظرك الحبيب ويحدث اللّقاء الّذي يغني المسافرَ عن كلّ شيء فلا يلتفت لأحد بعد أن يذوق حلاوة الإنوجاد بعد الفقد، والبصيرة بعد العمى. وليس كلّ عين بمتأهّلة للرّؤية، وليس كل قلب بصير، ولا تدع دخيلاً من أهل الطّريق يلعب ببصرك ولا بعينك الثّالثة، ولا تثق بمن يقول لكَ؛ تعال أفتح لك نظرك، فوحدكَ لن تستطيع ذلكَ. اعلم أنّ لكلّ شيء أوانه، وإذا لم تر البرازخ الملكوتيّة، أو لم تُكشف لك الأسرار اللّدنيّة فهذا يعني أنّك مازلتَ لم تبلغ سنّ الرّشد المطلوب كي يحدث الفتح. وكلّ فتح غير عفويّ ضارّ، ولن يُدخلكَ إلّا إلى برازخ مفتعلة، قد تجدها مفتوحة على عوالمك النّفسيّة وما فيها من غليان واضطرابات لا أقلّ ولا أكثر، وقد تتحمّل الأمر، وقد لا تستوعبه فتصاب بالخبال والجنون، أو الفصامات التي لا أوّل لها ولا آخر. عليك أن تتعلّم فنون الانتظار يا باركك الله، ولا تسبق المراحل، دع كلّ شيء يقع في وقته. فأنت بذرة وتحتاج لكلّ الظّروف الطّقسيّة الملائمة للتفتح والإزهار.