كتاب أسماء غريب سيّدة القلم العربي بقلم د. أسماء غريب .. سعيدٌ مَن رضِيَ بما قُسِمَ لهُ من رِزقٍ وأقدار، وكيف لا يكون كذلكَ وكلّ شيءٍ في الرّضا! والأمر ليس بنتيجةٍ لفعل أو مجهودٍ ما فحسب، ولا بتحصيل حاصلٍ، وإنّما لا بدّ لكَ من تجربة هذا الرّضا الّذي بهِ يُصبحُ كلّ شيءٍ بيْنَ يديْكَ. كن على يقينٍ بأنّ الأمرَ ليس له علاقة بالوصول إلى سدرة المنتهى، وإنّما بفلسفة الرّضا في حدّ ذاتها. ليتكَ فقط تعلمُ أنّ كلّ شيء قد وقعَ واكتملَ، وأنّ الوجودَ هكذا كما هُو لا ينقصُه شيء، ولأنّك جزء منه، فأنتَ أيضاً لا شيءَ ينقصُكَ، يكفي أن تقبَل بالخَلقِ كما هو، يكفي أن تقنعَ وتقتنِع بذلك. إذا كُنتَ نقيّاً فلا شيء في الوجود سيكون أسهل من إرضائِكَ، ولتعلم أيّها المحبّ أنّ كلّ شيء يأتي من تلقاء نفسِه؛ تُشرقُ الشّمسُ فترضى، يبزُغ القمَرُ فترضى، يأتي الصبّاح فتسعَدُ ويَبْتَهِجُ لهُ كلّ كيانكَ، ويأتي اللّيل، فتقول الحمد لله، ويُزَقْزِقُ الطّائرُ على شُرفةِ الجيران فتطيرُ روحُكَ جذلى وترقصُ من شدّة الوجد والانتشاء. وكيف لا، وكلّ شيء من حولكَ جميل. لكن، ماذا إذا كنتَ بلا عينيْن ولا أذنيْنِ؟ سوف لن ترى شيئاً من هذا الجمال الّذي أحدّثُكَ عنهُ يا صاحبي، وحياتُكَ ستكونُ سلسلةً من الشّكوى والتذمّر والبكاء. لن تعرف أبداً بأنّ الحياة نفسها مُعجزة: الأزهار تتفتّح في كلّ مكان وأنت لا ترى، الأطفال من حولك في الحيّ يضحكون وأنت لا ترى، الأنهارُ تغنّي وأنت لا تسمع، والنّجوم ترقصُ وأنت أعمى، وأهل النّور من كلّ فجٍّ عميقٍ يأتون إليكَ يطرقون باب قلبكَ وأنت تغطّ في نوم عميق، فكيف تسعدُ وترضى؟! كلّ شيء تبحث عنهُ يوجدُ هنا حتّى قبل أن تأتي إلى الوجود، ليتك فقط تراهُ، وسوف لن تكفّ عن الشّكْرِ والحمد والامتنان. أنا مثلاً، كغيري من قلّة قليلة، عرفتُ معنى كمال الوجود وتذوّقتُ طعمَ الرّضا، لأجل هذا أريدكَ أن تشاركني هذا الإحساس الرّائع: حينما دخلتُ عالمَ الكتابة ومعانقةَ حرف الإبداع شِعراً وحواراً، وقَصّاً وترجمَةً ورواية ورسماً، وجدتُ الكونَ يمنحُني كلَّ شيء، أيْ يمنحُني ذاتي العليا. لا تستغرب، فأنا نفسي بذاتي الملكوتيّة نعمةُ النِّعَم والبركاتِ، نظرتُ إليَّ ووجدتُني كائناً كاملاً مكتملاً، أميرةً من صُنع مَلِكٍ، هُو خالقي ومليكي، بهِ عرفتُ الوجودَ من حولي فحصل لي الانتشاء والسُّكْر والإغماء من فرط السّعادة والبهجة. الرّضا، والشّكر على نعمة الكينونة أيّها المحبّ هُما من أعظم المسارات الخيميائيّة التي يُمكن لإنسانٍ ما أن يجرّبَها في حياته، إنّهما جوهرُ العبادة الحقيقيّة. حينما كتبتُ وألّفتُ أزيدَ من ثلاثين إصداراً في فترة وجيزة من الزّمن لا تتجاوز التّسع سنوات، كنتُ أعلمُ أنّني في أرض الله قلبي، وكلّما بذرتُ فيه بذرة كنتُ أعرفُ أنّها ستُزهرُ، إلى أن أصبحَ هذا القلب الصّغير الّذي أحمل بين جوانحي فردوساً بَحريّاً خلّاباً يضجُّ بالأزهار والأشجار والطّيور والأسماك والأعشاش واللؤلؤ والمرجان، وعرائس البَحْرِ من الإنس والجان وممّا لا يعلم سوى الرّحمن، كلّ شيء فيهِ ساحرٌ باهر، أسماءٌ ووجوه جاءتْ لزيارتي من كلّ الأقطار، وتبرعمتْ في حديقتي وكَتَبَتْ عنْ حرفي بكلّ فرحٍ وسعادة، إلى أن أتى يوم، وجدتُ فيه بين يديّ هذا الكتابَ الّذي كتبَ نفسَهُ بنفسِه، ففتحتُه ووجدتُ صُوَرَ أحبّة وإخوة لي في الله قاربوا حرفي، فكتبوا عنهُ بماء العشق والمحبّة والتبتُّل الإلهيّ، وكنتُ كلّما شكرتُ في قلبي كلّ اسمٍ منهُم على حدةٍ، تكاثرتِ الأسماءُ من حولي، وتوالدت الحروفُ والأوراق، وسال الحِبر فيّاضاً بحيث مهما قلتُ من كلامٍ، ومهما صغتُ من عبارات الشّكر والرّضا والامتنان، فإنه يبقى عاجزاً عن تقديم آيات العرفانِ الحقيقيّة التي يستحقُّها كلّ اسم كتبَ عنّي، لذا ارتأيتُ أنّ أنبل وأقوى وسيلة لفعل هذا هي توثيقُ هذه المقالات السّامقة ووضعها بين يديْ الأستاذ علي عبد الرضا عوض الّذي جمعها في هذا الكتاب ونشرها بكلّ محبّة كي تكون هديّة لكلّ من خطّ حرفاً، وخصّني بالعناية والاهتمام. (د. أسماء غريب)