كتاب المواقف النقدية قراءة في نقد القصة القصيرة بقلم الدكتور كريم الوائلي ... يعنى النقد الأدبي عناية بالغة بدراسة النصوص ـ أدبية كانت أو نقدية ـ وسواء اعتمد النقد المقومات الذوقية أولم يعتمدها فإنه ـ بالنتيجة ـ يتأسس على معايير محددة تمكن الناقد من تحليل النص وتفسيره وتقويمه، بمعنى أنه يتجاوز الذوق إلى عملية ذهنية واعية، ويكشف النقد ـ من هذه الزاوية ـ عن القيمة الفنية والمعرفية للنصوص، ليلتقي بألوان المعرفة الأخرى ويستقل عنها في آن، وبهذا يسهم النقد الأدبي في تشكيل نوع من الوعي الفني والمعرفي للأديب والناقد بخاصة، والمجتمع بعامة. وتأسيساً على هذا اتجه البحث إلى دراسة النشاط النقدي في العراق، وبخاصة ما أثارته القصة القصيرة من تصورات وتحليلات نقدية، ليسهم هذا التحديد في تخصيص دراسة تهدف إلى مزيد من الدقة في المعالجة والتحليل، وليعصم الباحث من الإسراف في التعميم إذا وزع جهده في دراسة النشاط النقدي بأسره، كما أنَّ هذا التحديد يسهم في الكشف عن التجليات النقدية المتنوعة حول هذا الشكل الأدبي دون غيره من الأشكال الأدبية الأخرى، ويتحدد البحث ـ من زاوية أخرى ـ بإطار زماني يمتد من مطلع القرن العشرين ـ البدايات الأولى للنقد ـ ويتوقف في عام 1967م، ليرصد مرحلة دقيقة من مراحل النقد في العراق، تميزت بخصائص وسمات معينة، وانطوت على مواقف نقدية متغايرة، تبلورت وتكاملت في هذه المرحلة، ويهدف البحث ـ من ثم ـ إلى الإحاطة بها، ومتابعة تطورها، وتأسيس أصولها. ويصدر هذا البحث عن تصور أولى لطبيعة الأدب والنقد يرى فيه أنَّ الأديب والناقد يصدران عن تصورات سابقة تحكم رؤيتهما للعالم والإنسان، ومن الطبيعي أنْ تتغاير هذه التصورات فردية وعامة، ومن الطبيعي أيضاً أنْ تنعكس آثارها على النصوص الأدبية من حيث تحديد وظائفها، وماهياتها، وبنائها، وأداتها، فالناقد الذي يرى في الأدب صورة حرفية للواقع، بمعنى مراقبة الواقع وتسجيل أحداثه، يضاد الناقد الذي يرى فيه تعبيراً عن الانفعال أو تصويراً له، ففي حين يركز الأول جهده على العالم الخارجي، يركزه الثاني على العالم الداخلي، ويختلف عنهما ناقد آخر يوفق بين العالمين بطريقة ما، في أثناء تحليله، وهذا يعني أنَّ هناك بنية تختفي وراء هذه التصورات، وكان ينبغي أن يتجه الدرس النقدي ليكشف عنها، ويحدد عناصرها، ما دام النقد عملاً ذهنياً واعياً. وفي ضوء ما سلف ومن خلال عملية استقرائية للنصوص النقدية اتضح أنَّ هناك مجموعة من الرؤى تعاقبت على الساحة النقدية في العراق، فهناك رؤية تغلب الموضوع على الذات، وتجعل العقل متحكماً في إبداع النص وفي كيفية نقده، أطلقت عليها «الرؤية التقليدية«، وتضادها رؤية تغلب الذات على الموضوع، وتجعل الذات مصدرها في الوعيين الفني والمعرفي على السواء، وتنعكس آثارها ـ بالضرورة ـ على إبداع النص ونقده، أطلقت عليها « الرؤية الرومانسية »، وهناك مجموعة من الرؤى حاولت الانفلات من الرومانسية من ناحية، وسعت إلى التوفيق بين الذات والموضوع، مع تغاير كيفي في طبيعة هذا التوفيق من ناحية أخرى، كما أنها تزامنت في مرحلة تاريخية معينة، وتنحصر هذه الرؤى : بالوجودية، والواقعية النقدية، والواقعية الاشتراكية. وفي ضوء هذا توزع البحث على ثلاثة أبواب يختص الباب الأول بالموقف التقليدي، ويختص الباب الثاني بالموقف الرومانسي، ويختص الباب الثالث بالمواقف : الوجودية، والواقعية النقدية، الواقعية الاشتراكية، التي جمعت تحت عنوان « الانفلات من الرومانسية » وينطوي كل باب على ثلاثة فصول : يُعنى الفصل الأول : من كل باب بـرؤية النقاد، وتحديدهم لوظائف القصة القصيرة، ويُعنى الفصل الثاني : من كل باب بطبيعة القصة القصيرة، وخصص الفصل الثالث من كل باب : لبناء القصة القصيرة وأداتها، غير أنَّ الضرورة المنهجية اقتضت في ضوء الكيف النقدي أولاً، والكمي ثانياً، أن تعالج الوجودية والواقعية النقدية بصفحات محدودة في أوائل الباب الثالث، وتنطوي دراستهما على عرض رؤيتهما وتحديدهما لقضايا النقد الأساسية شأنهما شأن المواقف النقدية الأخرى، وافرد البحث للواقعية الاشتراكية في ضوء تجلياتها النقدية كيفاً وكماً ثلاثة فصول، شأنها شأن فصول الموقفين التقليدي والرومانسي. وكان من الضروري أن يسبق كل باب من أبواب البحث مدخل صغير تناولت فيه التطورات السياسية والاجتماعية، وحاولت اختزاله إلى أقصى حد، ويتحدد في هذا المدخل المرحلة الزمنية التي نما فيها الموقف النقدي وتطور، فالموقف التقليدي يمتد من مطلع القرن العشرين حتى الحرب العالمية الثانية، في حين يمتد الموقف الرومانسي من الحرب العالمية الثانية حتى أوائل الخمسينات، وتتزامن في « الانفلات من الرومانسية » الوجودية، والواقعية النقدية، والواقعية الاشتراكية، في مرحلة زمنية تمتد من أوائل الخمسينات حتى عام 1967م، وعلى الرغم من تواكب المواقف النقدية وتعاقبها زمنياً فإنَّ هذا لا يعني حداً فاصلاً بينها، وإنما يمثل المرحلة التي ازدهر فيها هذا الموقف دون غيره، لأننا نجد نقاداً يسبقون مراحلهم أو يتخلفون عنها، وعلى سبيل المثال تأخر بعض النقاد التقليديين إلى الخمسينات والستينات.