كتاب رحلة السّلام الرّوحي، من الفحم إلى الماس بقلم د. أسماء غريب.....السّلامُ حالة سامية من حالات الموتِ الأكبر، وربطي لهُ بالموت لمْ يتأتّ أبداً من فراغ، فعلى الإنسانِ؛ كلّ إنسان أن يموتَ لكيْ يصلَ إلى مقام السّلام الحقّ. وأقصدُ هنا بالموت: الموتَ عن الماضي، والموتَ عن الحاضر، والموتَ عن النّفس، والموتَ عن الموت نفسه، لأنّ السّلام هو قيامة اللهِ داخل الجسد الإنسانيّ، وداخلَ القلب والعقل والرّوح. فقط بهذا النّوع من الموت يمكنُ أن تتحقّق هذه القيامة أو الولادة. كلّ إنسان يولدُ جنيناً واللهُ بداخله، فيأتي الأبُ والأمّ، ثم الأسْرة والمجتمع، والقبيلة والعشيرة، ثمّ تُجّارُ الدّين واللّاهوت فيقتلون جميعهم هذا اللهَ الحيّ بداخل الوليد الجديد، يقتلونَه بأفكارهم وبتعاليمهم وقوانينهم وتشريعاتهم ويجعلون منه مسخاً، يصارع نفسَه بنفسه، وينفصمُ عن روحه بين ما يفرضُه عليه الآخرون وبين ما يريده هو أن يكون حقيقة. الموتُ الذي أتحدّثُ عنه شيء رائع حقّاً، وإذا كنتَ تعرفُ عزيزي القارئ كيف تتحدّثُ إليه وتتواصلُ معه فستراه حالةً من الاسترخاء والعودة إلى مركز الوجود، هناك حيث توجد تلك الحياة التي لم يتعرّفْ عليها سوى القلّة القليلة جدّاً من البشر، حياة بِكر، لا خوف فيها ولا حزن، والإنسانُ فيها هو سيّد الكون، هذا الإنسان الذي أدعوك إلى التّواصل معهُ من جديد، لأنه هناكَ منذ زمن بعيد، ينتظر منكَ أن تلقي عليه نظرةَ عطف ومحبّة وحنان، فلتنظر إليه معي الآن، إنّه بداخلك وفكّرْ بصمتٍ وصبر في حالك ونفسكَ، كيف أنّك ذات يوم كنتَ طفلاً، ثم شابّاً ثم أصبحتَ شيخاً، وكيف أنّك قاسيتَ كثيراً في هذه الحياة، وكيف أنّ كلّ التَّجارب تمرُّ وأنتَ مازلتَ بداخلكَ، أنتَ أنتَ، لم تتغيّرْ، انظر إلى ذاتك الواعيَة، إنها لا تشيخ أبداً، إنَّها الطّفلةُ أبداً الّتي لا تعرفُ كمْ بلغتَ من العُمر، لأنّ في داخلكَ لا يوجدُ عُمر ولا زمانٌ ولا وقت، فأنتَ الوعيُ والفكر، وأنتَ الرّوح والحياة، وأنتَ الّذي خلقهُ اللهُ على صورته، وقال بشأنه: كلٌّ من عليها فانٍ ويبقى وجهُ ربّكَ ذو الجلال والإكرام. أنت هُو هذا الوجه، وهذه الصّورة، وهذا الَّذي قال فيه المولى وهو في موقف الملائكة: إنّي أعلم ما لا تعلمون. لأجلِ هذا أقول لك، لا تخَفْ من أفكاركَ، ولا تخَفْ من عمركَ، ولا من تجاربكَ وآلامكَ، فكلّ شيءٍ إلى زوال، كالضّيوف يدخلون إلى البيْتِ ويغادرونه، ويبقى صاحبُ البيْت كما هو: أنت البيتُ إذن، والأفكار وتجاربُ الحياة هُما الضّيوف، فاحذر أن تصبحَ وضيوفَك شيئاً واحداً، لا بدّ لك من مسافة تضمنُ لك الحفاظَ على كينونتك الإلهيّة، فأنتَ الثّابتُ الّذي لا يتغيّر، وأنت المُتفرّج الّذي يرى كلّ شيء، والباقي ليسَ أنتَ أبداً، لا جسدك، ولا حزنك، ولا جوعُك، ولا دمعُك ولا مرضُك يدوم، كلُّ شيء يزول وتبقى أنت: وهذا هو السّرّ الّذي أدركَهُ بعض المتصوِّفة الكبار، وإذا أدركتَهُ أنتَ أيضاً فقدْ عرفتَ السّلام. السّلامُ حالة من النّقاءِ والعذريّة، يستدعي العُزلة حتّى يمكنكَ أن تطّلِعَ على ذاتكَ من الدّاخل وتصلَ إلى السّرّ، دعني أضربْ لكَ مثلاً عن عذريّة السّلام: الكلّ يعرفُ مريم العذراء، أليس كذلك؟ لكن قلّة هُم أولئك الّذين يعرفون جيّداً معنى عذريّتها، حتّى أنّ هناك لليوم من لا يعترفُ بها، ويعتبرها وابنَها قصّة من نسْج الخيال الدّيني أو اللَّاهوتيّ أو الكهنوتيّ. نعم، هناك من لا يعترفُ بعذريّة مريم، لأنه يربط العذريّة بالمفهوم السَّطحيّ المتداول لدى الجميع، ومازال هناك من يسألُ مريمَ عن ابنها كيف أتتْ به بدون أبٍ؟ وهناك أيضاً من ينسبُ عيسى إلى يوسف النّجار. كلُّ هذا يحدثُ لأنّ الناسَ لا يعرفون معنى السّلام، ولو عرفُوه ما اتّهموا مريم أبداً، ولفَهموا أنّ بلوغ مريم أقصى حالات السّلام هو سرُّ عذريّتها. لقد اعتزلتْ مريم النّاسَ، وخلت بنفسِها فحلّ المسيح في أحشائها، وهي لهذا أراها سيّدة السّلام الأولى بدون منازع. عذريّة الرّوح لا تتأتّى أيّها السّادة الكرام إلّا بالعزلة، ولا فرق في هذا بين امرأة أو رجل، ومريم كانت تجلسُ بصمتٍ في عزلتها، وحينما غشيَها شعاع النّور حبِلَتْ. لقد كانت عذراء بكلّ ما في الكلمة من معنى. والمسيح لا يمكن أن يكون أبداً ابن يوسف، إنّما هو ابن مريم فقط، لأنّها عرفت كيف تصلُ إلى أعلى درجات السّلام، أيْ كيف تنعزل من أجل أن تستقبلَ ضيفاً عزيزاً. يهمّني جدّاً أن تعرفَ أيُّها القارئ العزيز، أنّك إذا عزلتَ نفسك، ستصبحُ أنتَ في داخلك، واعلم أنّه إذا تحقّقتْ لكَ هذه العزلة، جاز لك أن تسأل نفسكَ: من أنتَ؟ صدّقني ستعرفُ الجوابَ بدون شكّ، إلّا أنّكَ سوف تحتفظُ به لنفسكَ، لكيْ لا تُنعتَ بالجنون.