رواية الجسد بقلم غالب الشابندر ....تستبيح نظرية المعرفة قيمة الحواس ، تضطهدها ، تختزلها ، وذلك لمّا تجعلها مجرد ساعي بريد لدى الدماغ المتسلّط ، وقد نسى أساطين هذه النظرية ، إن الدماغ يضع حصيلة جهده الجبار بين يدي الحواس ذواتها ، كي تمارس حقها الأصيل في الحياة.كل حاسّة حيّز لا يساوم في الدرجة الأولى إلا على حقّه من فضاء الحياة
، بل من فضاء الوجود كله ، ويعيش غبش معنى الحرية ، الذي ينكدر بأن كل حاسة من الحواس ، تمتلك حقها الجذري كموضوع متحّيز ، كموضوع صارخ ، كموضوع شاخص ، كموضوع متبوع بذاته ، ومن ثم كل حاسة تملك حقها من الإشباع ، من الارتواء ، بما يوازي طبيعتها ونهجها وطموحها.المتعة الحسّية تتخطّى ذاتها ، ليس أنانية ، متعة تشارك برصيدها الآخر ، إن المتعة البصرية مثلاً ، وأيّ متعة حسية منفردة ،تسري بهدوء أو بسرعة إلى كل ذرة من ذرات الجسد ، لأن كل حاسّة من الحواس اختصرت بذاتها الكيان البشري كله. الحواس طريقنا إلى العالم ، هكذا نسمع ، هكذا درجنا على التلقي ، وهكذا اختمر في أعماقنا ، ولم نراجع في يوم من الأيام هذه المصادرة ، التي طالما ينقشها الفيلسوف على صفحات دفاتره المتعالية ، ويرددها الخطيب ، من على منصته الشامخة. بل تقرع أسماعنا بها مِطرقات القضاء ، سواء كان عادلاً أو ظالماً ، وتتحفنا وظائف الأعضاء بمعلومات في غاية الثراء ، عن دور الحواس في التعرف على الأشياء ، ألونها ، طعومها ، ودرجات كثافتها ، ومدياتها ، والموعظة الدينية تسمل العيون بحاجب الإقطاع ، وترعب الآذان باستثناءات مجرمين مفترضين ، وتعقل اللسان بحلاوة الجنّة المؤجلة ، فنشأت حواس مرعوبة من المفترض ، تواسي شهوتها المؤجلة بتقاء بطش موعود ، وكأن الدين سوط المستقبل ، وليس أملاً يفتش عن نفوس مترعة بالحيوية ! إرهاب الحواس ... إنه إرهاب .. تمارسه مؤسسة الحياة المُخترعة ، الفكر الذي يحتكر الحقيقة ، الفلسفة التي غلّفت الحياة بنسيج الأوهام ، الفهم الظلامي للدين ، وكانت النتيجة حواس يلجأ إلى أمل الخلاص من فتنتها بالذات .. نعم.. من فتنتها التي طبعها الله عليها ، فتنتها التي هي مصدر إثراء العالم ، فمن قال إن الحواس مجرّد جوف نهم ، ومحتكر يستلذ بالسلعة المصادرة ، وهل نسينا أن الحضارة نتاج قتل الدماغ مستعيناً بالإبهام