رذاذ على زجاج الذاكرة، كتاب اقترب من الأمكنة والناس بعيداً عن لغة الجغرافيا والتاريخ، وقريباً من لغة البعد الثالث، حيث الإحساس بما يحدث، وما حدث. من أجواء الكتاب: وأنا أنهمك بكومة أوراق على طاولة العمل ، في مكتبي ، تسللتْ إلى شرْفة القلب مسحة من عطر أثيري ،
فانتبهتُ ، انتبه القلب ، جفلَ واستشاط. إنه عطر رومانس ، فأرخيت رأسي على طاولتي ، ورحت أتذكر: كانت تنتظرني ، في موقف الحافلات ، اقتربت منها ، مددتُ يدي فصافحتُ القصيدة. في عينيها رأيتُ بحراً بلا نهايات ، فشهقتُ بالريح وناديتُ في سرّي أن استشيطي ، ففي جعبة القلب شراعي الذي جهزْته منذ لثغتي الأولى. همستُ لها: "هل نذهب؟" فأومأت برأسها ، وكلماتها تتناثر كحبات لؤلؤ: "نعم نذهب". في المقهي كانت فيروز تغني ، وكان الصيف يَلبس قميص المساء. قالت: "قهوة ، حلوة قليلا". فطلبت فنجانين. فيروز وصَيف يلبس قميص المساء ، وقهوة حلوة ، وهي. أووووووووه ، كم كان الله يحبني، قالت: "أريد سيجارة" ، فأشعلت لها واحدة ، ورأيتها تدندن ، بمعية فيروز ، كأن نادل المقهى كان يعرف أن المساء ، بيني وبينها ، صباح.. أن الظهيرة ، بيني وبينها ، صباح.. أن الصباح ، بيني وبينها ، صباح. لم نكن نرى إلانا ، وكأن بقعة ضوء سقطت على طاولتنا ، فقط ، وكأنه اختزال زمني استثنائي. قلت لها: أفتش عن مفردة تختصر شمس حبي لك أكثر من كلمة أحبكً". قالت: "أنت أناي". قلتُ: "نحن الأنا ، أنا واحدة فقط". مددت يدي ، أمسكت يدها ، شَهَقتُ. شَهَقَتْ وبقعة الضوء ما زالت تضيء طاولتنا ، تضيء استثنائنا الزمني ذاك. رأيتنا فقدنا حبل الكلام ، فرحْتُ أعزف على أناملها ، كما لو أنها أصابع بيانو ، قطعة موسيقى نَمَتْ ، آنذاك ، في تربة قلبي. كنا نسير في الشارع بعد أن غادرنا المقهى ، وكفّي يحتضن كفها ، وإيقاع عمان ، في الليل ، يصلح لعاشقين يودان لو يقف ولد الزمن عند لحظتهما الاستثنائية. عند باب البيت ، عندما ودعتها ، رأيت شجرة صفصاف صغيرة تتمايل ، رغم أن الريح خانسة في مهدها.